بحث في هذه المدونة

الخميس، 1 فبراير 2018

شقاء بعد الستين

قديماً كان يقال: «الحب يبدأ بعد الستين»، حينها يكون الرجل قد تخرج أبناؤه من الجامعات وتزوجوا، وانتهى من هموم تربية الأبناء ومشكلاتهم، ثم يتفرغ ليعيد قصة حب مع زوجته، أو يبدأ قصة حب إن كان وحيداً، ولكن اليوم مع انتشار مشكلة الإنجاب المتأخر بين المصريين، تحول الحب إلى شقاء بعد الستين، وأصبح الرجل الذى بدأ مرحلة الشيخوخة، أن يبدأ قصة كفاح مع ظروف الحياة القاسية لتوفير مستلزمات الحياة لأطفاله الذين ما زالوا فى مرحلة الطفولة أو فى مراحل التعليم المختلفة.

يضاف إلى ذلك أن طبقة عريضة من المصريين الذين تخطوا الستين يواجهون قيوداً صارمة فى أسواق العمل والتى عادة ما تحول دون تشغيلهم، ما يضيق الفرص المتاحة أمامهم فى حياه كريمة، فى ظل الأزمات الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة.

ليس هناك أى إحصاءات من جهات حكومية، أو أهلية، بحصر عدد الأشخاص الذين تخطو الستين عاماً، وما زالوا يحاربون فى ظروف معيشية قاسية، من أجل تربية أبنائهم الصغار، ولكن إذا ألقينا نظرة على جميع الأماكن التى نمر بها أو نعمل فيها، سنجدهم فى كل مكان نقصده، ما بين بائع خضار وسرّيح وعامل فى محل، أو قهوجى، وخلافه.
«عم أحمد» يعمل ماسح أحذية فى منطقة الدقى، ملامحه يظهر عليها شقاء الحياة، يقول إن عمرة تجاوز 65 عاماً، ولديه 3 أبناء ما زالوا فى مراحل التعليم المختلفة، ما بين الإعدادية والثانوية، مؤكداً أنه كان يعمل موظف «حكومى»، ولكن سرعان ما خرج على المعاش ووجد ظروف الحياة تجبره على البحث عن عمل جديد، لمواصلة سد احتياجات أبنائه، الذين ما زالوا فى مراحل التعليم، فى ظل تدنى المعاش الذى يصرف له.

ويقول «عم أحمد»، عن أسباب وجود أبناء له صغار السن، بينما كان المفترض أن يكون أحفاده فى هذا السن، قائلا: النصيب حكمة الله ولا أحد يمنع قضاء الله، موضحاً أنه عندما تزوج تأخر فى الإنجاب لأسباب طبية، جعلته هو وزوجته يتأخران فى الإنجاب، وعن سبب اختياره للعمل ماسح أحذية، فى ظل أنه كان موظفاً. ويضيف أن أكل العيش هو من دفعه للعمل فى تلك المهنة بعدما بحث عن العمل فى أماكن كثيرة، ولم يجد، كما أن الأماكن التى وجد بها عمل راتبها لا يكفى مصاريف أبنائه فى التعليم ولا يسد حتى متطلبات الحياة.

رفض «عم أحمد» أن نلتقط له صورة خوفاً من الفضيحة، على حد قوله، ويكشف عن أهم مطالبه قائلاً: «أتمنى من الحكومة أن تراعى أصحاب المعاشات وخاصة من لديهم أبناء فى التعليم، وترفع قيمة المعاش، كما تمنى أن يكون هناك تشريع يقضى بمد فترة المعاش لمن يثبت أن لديه أبناء فى مراحل التعليم، حتى لا تهين الموظفين فى أواخر عمرهم فى أعمال شاقة ولا تليق بهم».

«كمال يوسف»، 63 عاماً، كان يعمل أيضًا موظفاً «حكومياً»، يعمل فى عيادة طبيب، من الساعة العاشرة حتى الخامسة، موضحا أنه ما زال لديه ابن فى الجامعة وأخرى فى الثانوية، والاثنان يحتاجان إلى مصاريف ضخمة فى ظل ارتفاع تكاليف ومتطلبات الحياة، مؤكداً أن قيمة المعاش لا تغطى شيئاً من المصاريف، موضحاً أن أبنه الجامعى يعمل أيضًا بعد الجامعة لتغطية مصاريفه والمساعدة فى الحياة، وعن أسباب إنجابه المتأخر قال إن زوجته توفيت بعد 15 عاماً من الزواج، وبعدها تزوج من أخرى، موضحاً أن زوجته طلبت منه أن تنجب وأن يكون لها أبناء، مثل باقى النساء، فلم يمانع، ويقول: هذا حقها، خاصة أننى ليس لدى سوى بنت وحيدة.

ويقول «عامر مجدى»، 61 عاماً: إنه يعمل عاملاً فى مكتبه فى الدقى، لديه أربعة أبناء، ثلاثة منهم تخرجوا فى الجامعة، وما زال لديه بنت فى دبلوم صنايع، مؤكداً أن ظروف الحياة فى السنوات الأخيرة، تجبر جميع المواطنين على العمل سواء لديهم أبناء فى التعليم، أم ليس لديهم أبناء، موضحاً أن تكاليف الحياة مرتفعة، والمعاشات أصبحت لا تغنى ولا تسمن من جوع، مؤكداً أن ابنته جاءت له «غلطة».

وقال «أيمن حمدى»، إنه هو وزوجته اتفق على تأخير الإنجاب فى بداية زواجهما، حتى يشعرا بالاستقرار فى الحياة بينهما ثم ينجبان إذا شعرا بأن الحياة بينهم مريحة، مؤكدا أن ذلك سبب وجود أطفال فى حياتهم، وهم فى سن مبكرة، مطالباً الشباب بعدم تكرار موقفه من تأجيل الإنجاب، موضحاً أن العمر يجرى، وهو لم يطمئن على أبنائه بعد، كما أن الحياة ما زالت تجبره على الشقاء لسد احتياجات أبنائه.

وقال «رضا عيسى»، الخبير الاقتصادى: إن المشكلة أكبر من شقاء الأشخاص الذين تخطوا سن الستين عاماً، موضحاً أن الشباب فى الوقت الحالى يعملون فى أكثر من عمل لتوفير أساسيات الحياة، لافتاً إلى أن ذلك الأمر يتعلق بجودة الحياة، موضحاً أنه فى الدول الأوروبية تقلل ساعات العمل، لكى يستمتع الأشخاص بالحياة من ضحك وحب ولعب، كما كان يقال قديماً.

وأكد أن من يعملون بعد سن الستين عاماً يواجهون علاقات عمل سيئة جداً، مثل مرتبات متواضعة، ولا يوجد تأمينات صحية.

وأوضح أن من أسباب انتشار ظاهرة شقاء بعد الستين، يرجع لعاملين أساسيين الأول تأخر سن الزواج، والثانى مشكلة البطالة، موضحاً أن طلاب الجامعات يحلمون بالوظيفة فور تخرجهم، علهم يجدونها فيضطرون إلى البحث عن عمل آخر ولا يجدونه، ما يجعلهم يتأخرون فى تكوين أنفسهم واستطاعتهم للزواج المبكر، مؤكداً أنها حلقة مرتبطة بعضها ببعض.

لعبت العادات والمفاهيم الجديدة دوراً فى تأخير الإنجاب لدى العديد من الأسر المصرية، حيث يفضل بعض حديثى الزواج تأجيل فكرة الإنجاب لعدة سنوات بعد الزواج، وذلك من أجل الاستمتاع بالحياة الزوجية، وعدم التبكير بتحمل مسئوليات تربية الأطفال خلال السنوات الأولى من الزواج، كما أن البعض يفضل عدم الإنجاب حتى يشعروا بالاستقرار والراحة النفسية بينهم، نتيجة انتشار حالات الطلاق الكثير، حيث أثبتت الدراسات، أن هناك حالة طلاق كل أربع دقائق فى مصر.

وحذرت الدكتورة سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع، أن تأجيل الإنجاب بين الزوجين، طريقة للعيش بين المصريين، حيث ناقشها فيلم «الحفيد» فى الستينيات، مؤكدة أن المجتمع كان ينادى بها؛ لعدم الإنجاب بين الأزواج للحد من المشكلات الزوجية التى تحدث بعد الزواج.

وأوضحت أنها تؤيد فكرة تأخير الإنجاب بين المتزوجين حديثاً لمدة عام أو عامين، مؤكدة أنها لا تؤيد فكرة تأجيل الإنجاب أكثر من ذلك بحجة الاستمتاع بالحياة بينهم، موضحة أن تأخير الإنجاب أكثر من ذلك له عواقب وخيمة على المجتمع.

وتقول الدكتورة خديجة فيصل مهدى، الباحثة فى مجال المرأة، إن هناك العديد من الأزواج الذين يلجأون لتأجيل الإنجاب فى بداية حياتهم الزوجية، لعدم استعدادهم نفسياً لتحمل هذه المسئولية الكبيرة، خاصة أن الكثير من الأزواج فى الوقت الحالى يتزوجون ويكون لديهم العديد من الأعباء المادية التى لم يقوموا بسدادها مثل أقساط بعض الأجهزة والعفش، ويكون البعض منهم غارقاً فى الديون التى اضطروا لها لإتمام زواجهم.

وحذرت الباحثة فى مجال المرأة من فكرة تأجيل الإنجاب، إلا بعد الذهاب إلى الأطباء، للاطمئنان على صحتهم وأنهم قادرون على الإنجاب؛ لتجنب أى مشكلات من الممكن أن تكون عائقاً فى المستقبل أمامهم، إذا أرادوا الإنجاب، كما أن فكرة تأخير الإنجاب جاءت لسبب زيادة نسبة الطلاق بين الأزواج والزوجات، موضحاً أن الفكرة لها فوائد عديدة، ومنهم الشعور بالاستقرار والأمان بين الأزواج، ولها أضرار أخرى، وهى أنجاب أبناء فى سن متأخرة، ما يكون عائقاً أمام الآباء فى استكمال مراحل التعليم وتربية الأبناء وهم فى سن صغيرة.

فى السياق نفسه، كشفت إحصائية حديثة صدرت عن جهاز التعبئة والإحصاء، عن تراجع معدلات الزواج بين المصريين، خلال الربع الأخير من العام الحالى، مقارنة بالعام الماضى، كما أن معدلات الزواج تراجعت خلال شهر أكتوبر الماضى، بعدما بلغ عدد عقود الزواج 75.8 ألف عقد بنسبة انخفاض 11.2%، مقارنة بالشهر المماثل من عام 2016، بينما تراجعت بنسبة مقاربة، أيضاً، فى شهر سبتمبر، مقارنة بنفس نسب الشهر نفسه العام الماضى.

كما تراجعت حالات الزواج فى السنوات الماضية، فى مقابل ارتفاع نسب الطلاق عاماً بعد الآخر، حيث أوضحت الإحصائية الصادرة فى بداية العام الحالى، أن عقود الزواج خلال 2016 بلغت 983.526 ألف عقد، مقابل 969.399 ألف عقد عام 2015، بنسبة انخفاض قدرها 3.2%، كما تراجعت تلك النسب عن عام 2014 بنحو 2% فى عدد العقود الإجمالية.

يأتى ذلك فى الوقت الذى وصلت فيه نسبة العنوسة إلى 13 مليون شاب وفتاة، وأكدت إحصائيات أن هناك شباباً ذكوراً وإناثاً تخطو سن الـ35 عاماً، دون زواج حتى الآن.
ويبدو أن المؤشرات التى ظهرت فى الإحصائية النهائية للعام الحالى، ستظهر أيضاً انخفاضاً فى معدلات الزواج عن الأعوام الماضية، وسط تخوفات وتساؤلات اجتماعية حول الأسباب والحلول.

وترى أستاذة علم الاجتماع فى جامعة عين شمس، سامية خضر، أن تراجع نسب الزواج، وارتفاع الطلاق متوقعة لعدة أسباب، تنوعت بين أوضاع اقتصادية، وزيادة اشتراطات الأسر على الشباب الذين يتقدمون لخطبة بناتهم، وكذلك زيادة التخوفات من وقوع حالات طلاق متعددة تقلل من نسب الزواج، إضافة إلى أن هناك سبباً آخر يتعلق بإقبال الفتيات المصريات على التعليم والعمل وإحجامهن عن الزواج، داعيةً المنظمات والمؤسسات الأسرية والاجتماعية إلى وضع حلول للظاهرة؛ للحد من ارتفاع نسب العنوسة.


الوفد






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق