بحث في هذه المدونة

الثلاثاء، 11 أبريل 2017

متى يعود الدستور للبرلمان؟

اليوم السبت الأول من شهر أبريل، من المفترض أن يكون المهندس/شريف إسماعيل رئيس الوزراء قد تقدم لمجلس النواب بمشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالى 2017/2018 ليبدأ التعامل بها اعتباراً من أول يوليو القادم، وهو ما يمثل التزاماً حكومياً سنوياً تنفيذاً للمادة 124 من الدستور التى تنص «بأن تشمل الموازنة العامة للدولة جميع إيراداتها ومصروفاتها دون استثناء، ويعرض مشروعها على مجلس النواب قبل تسعين يوماً على الأقل من بدء السنة المالية، ولا تكون نافذة إلا بالموافقة عليها ويتم التصويت عليها باباً باباً».

ولنتفق من البداية أنه لا أحد يختلف حول ضرورة إيجاد حالة من الاستقرار الاقتصادى والاجتماعى يضمن للمجتمع المصرى خروجاً آمناً من النفق المظلم الذى وضعتنا فيه الحكومة ـــ ومازالت ـــ بسياساتها الفاشلة وقراراتها اليومية المرتبكة والعشوائية فى معظمها، ليتسع هذا النفق يوماً بعد الآخر ليضم أغلبية الشعب المصرى، إلا أنه على الطرف الآخر فإن للاستقرار الذى ننشُده شروطه ومقاوماته الأساسية وأهمها حق المصريين البسطاء فى حياة كريمة، ولا ضمان لذلك إلا فى ظل ديمقراطية تضمن للجميع أن يعبروا عن آرائهم بحرية كاملة بعيداً عن القوانين المقيدة للحركة والتطبيقات الأمنية الضاغطة على الجميع، وكل هذا فى إطار مواد الدستور والقوانين المنظمة، وعلى الجانب الآخر أن يشعر الفقراء ومعدومو الدخل بالعدالة الاجتماعية الحقيقية بمفهومها الشامل «اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وحقوقيا» ولا تقتصر العدالة الاجتماعية على أى من الأبعاد سابق الإشارة إليها دون الأخرى وأى انتقاص من حقيقتها أو اختزال لها مخل لمعناها وعناصرها الأساسية والمتمثلة فى المساواة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص وكذا التوزيع العادل للموارد والأعباء. 

ولذا فإن اللغط الدائر والجمل الإنشائية التى ترددها الحكومة ليل نهار عن الحماية الاجتماعية لمحدودى الدخل ما هى إلا جمل تفتقد لعناصر العدالة الاجتماعية.. ولن يتحقق الاستقرار المنشود سوى بأن يتشارك الجميع فى إحداثه «الحكومة ومجلس النواب والأحزاب والنقابات المهنية والعمالية ومنظمات المجتمع المدنى وغيرها» وعلى مدار الفترة التى مرت على حكومة المهندس شريف إسماعيل وحتى الآن رغم التعديلات والتبديلات المتتالية فى الحقائب الوزارية إلا أن الشعب لم يلمس سعياً ولو حثيثاً لتحقيق هذا الاستقرار. 

ولنتفق أيضاً وبوضوح أن نقدنا دائماً سيظل موجهاً للسياسات وليس للأشخاص بذاتهم سواء فى الحكومة أو البرلمان أو أى من مؤسسات الدولة وأن الحكم على الأشخاص يتم دائماً فى ضوء تطبيقهم للالتزامات الدستورية والقانونية وما تعكسه سياساتهم وقراراتهم من نتائج إيجابية كانت أو سلبية على مجمل الشعب لا بعضه. 

وإذا ما اخترنا ملفاً واحداً فقط ـــ وهو ملف أموال التأمينات وحقوق أصحاب المعاشات ـــ من بين عشرات الملفات المتراكمة التى فشلت الحكومة فى التعامل معها، فسنجد أن هذه الحقوق بحكم عدم معالجة الحكومة لجذور المشكلة حوَّلها إلى مشكلة مزمنة، تعايش معها المصريون سنوات من الظلم المجحف، ولكنه بعد هذا الارتفاع الجارى على الأسعار حالياً ومن المنتظر أن يتواصل وبشكل أكثر حدة فى الميزانية القائمة وما ترتب على تعويم الجنيه المصرى من نتائج كارثية عليهم فقد تجاوز الأمر المدى المسموح به إنسانياً. 

ولا يمكن لأى باحث مُنصف أن يبرئ ساحة مجلس النواب فيما وصلت إليه هذه المشكلة من موقف متأزم للغاية، حيث تقاعس منذ بداية تشكيله وحتى الآن عن القيام بواجبه الدستورى فى تطبيق ما جاء بالمواد «17/27» من الدستور بأن أموال التأمينات هى أموال خاصة بأصحابها وأن من حقهم وحدهم دون غيرهم إدارتها واستثمارها استثمارا آمناً وعوائدها هى مصدر معاشاتهم.. هذا من جانب وأيضاً لم يفرض على الحكومة أن تُقر حداً أدنى للمعاشات يضمن لهم حياة كريمة.. كما تقاعس عن القيام بواجباته فى تشكيل لجنة تقصى حقائق تدرس وتفضح المسئولين الحقيقيين عن إهدار هذه الأموال.. بل يمكن القول وبلا مواربة واعتماداً على الحقائق أن اللجنة المعنية بالتضامن الاجتماعى بالمجلس تهربت عن مجرد مناقشة أصحاب المعاشات فيما يقدمونه من حلول بشأن قضاياهم، وتبين الجميع على مدار دورتى انعقاد المجلس مدى التوافق بين الحكومة ومجلس النواب فى تمييع التعامل مع هذا الملف المهم والخطير. 


ونخرج من كل ذلك أنه لا أمل فيما يدعو إليه نواب المجلس من ضرورة المحافظة على ضمان الاستقرار طالما بقيت الحقوق غائبة عن أصحابها.. وفى غياب العدل يسود الفساد ويطغى التمييز على كل شيء مهما بلغت الجهود التى يبذلها الرئيس عبدالفتاح السيسى والرقابة الإدارية فى ذلك الشأن وهو ما يستحق الإشادة به من الجميع. 

إن حقوق أصحاب المعاشات لابد أن تجد فى مشروع الموازنة القادمة مخرجاً واضحا، حيث تمثل التزاماً دستورياً وهو ما يفسره المستشار د.محمد خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة ــ فى دراسة منشورة «أن هذا الإغفال التشريعى يترتب عليه مضار كثيرة، إذ يخالف الدستور ويهدر أحكامه ويعطله، ويُحرم المواطنين من الحماية الدستورية المقررة لحقوقهم وحريتهم، كما أن عواقبه وخيمة، حيث تبدد ثقة المواطنين بالدستور وتحول نصوصه إلى مجرد شعارات جوفاء لا تتيح أثراً ولا تغير واقعاً على الرغم من أنها فى الأصل قواعد تتمتع بأعلى درجات الإلزام الدستورى» ولعل المستشار يحيى الدكرورى النائب الأول لمجلس الدولة قد قدم حكماً للقضاء الإدارى يحدد مفهوماً دستورياً راقياً للمعاش إذ ذهب إلى أن «المعاش فى مفهوم الدستور ليس صدقة تتصدق بها الدولة على المواطنين وإنما هو حق للمؤمن عليهم أو المستحقين عنهم والتمتع بالحقوق لا يتم إلا بإتاحة كاملة دون نقصان أو جور عليها أو تطفيف يفرغها من مضمونها، ولم يرد النص فى الدستور على تحديد حد أدنى للمعاشات عبثا، وإنما قصد منه تقرير حق دستورى للمؤمن عليهم أو المستحقين عنهم فى الحصول على معاش يضمن لهم الحياة الكريمة من غير بخس أو ظلم «ويعلق د.خفاجى أن هذا الحكم المهم إنما يُعد حكماً مبسطاً ميسوراً لتفعيل مواد الدستور فإن لم تقم السلطة التشريعية بتفعيل تلك المواد لتكون نصوصاً حية بين الناس فإنها تصبح كإعجاز نخل خاوية» إن إطلاق سلطة المشرع فى غيبة من الإلزام الدستورى يؤدى إلى طغيان إحدى أهم سلطات الدولة فضلاً عن تعارضه مع عُلُو الدستور، فالسكوت المطلق للمُشرع عن تنظيم الحقوق والحريات لا يمكن السكوت عليه، فالدستور ليس مُجرد نصوص تصدر لقيم مثالية ترنو الأجيال إليها، وإنما يتضمن قواعد مُلزمة لسلطات الدولة». 

ولعل الحكومة وهى فى سبيلها لتقديم مشروع الموازنة الجديدة أن تعى جيداً أن أصحاب المعاشات والمؤمن عليهم والمستحقين عنهم لهم حقوق لا يمكن إغفالها أو الاستمرار فى اتخاذ موقف اللامبالاة والتعامى عنها.. وعلى أعضاء مجلس النواب أن يمارسوا دورهم الرقابى المنوط بهم وأن يخرجوا أنفسهم من دائرة الاتهام الذى ألصق بهم أنهم حتى الآن نواب للحكومة ومدافعين عن سقطاتها وليسوا نواباً أتى بهم الشعب ليعبروا عن مصالحه، وأن يعيدوا له حقوقه التى سلبتها إياه دون فروق فى النتائج حكومات ما قبل وما بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو وما زال لم يلمس أى قدر من العدل أو رد اعتبار حتى الآن. 

إن أموالنا حق لنا.. والتاريخ لن يرحم أو يتغاضى عن الجرائم التى تُرتكب فى حقنا.. فهل لنا أن نأمل فى أن يعترف كل من البرلمان والحكومة معاً أثناء مناقشة مشروع الموازنة الجديدة أن الدستور الذى وافق عليه الشعب وبأغلبية ساحقة.. خرج ولم يعُد!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق