بحث في هذه المدونة

الأحد، 22 يوليو 2018

صناع وهم حرية السوق وضحاياه

صنعت الدول الرأسمالية شبكة قوية لها خيوط متنوعة مثل العنكبوت على مستوى العالم؛ لنشر وهم حرية السوق كوسيلة وحيدة للتنمية، وتعمل هذه الشبكة على عدة محاور تشمل كلًا من وسائل الإعلام؛ سواء الدولي أو المحلي ومجموعة من رجال الأعمال المستفيدين من حرية السوق، والتي تسعى الدول الكبرى لربط مصالح بعض الفئات وبعض المواطنين بنظام حرية السوق ليدافعوا هم بعد ذلك عن مصالحهم وعن حرية السوق.

كما تمنح توكيلات كبيرة المكاسب لمجموعة من المواطنين المختارين بدقة؛ وهم شخصيات مؤثرة فى المجتمع وقادرة على خدمة مصالحهم، هذا بجانب آخرين يمكن إغراؤهم بمختلف الوسائل للدفاع عن حرية السوق؛ بهدف استمرار فتح أسواق العالم الثالث أمام منتجات الدول الكبرى؛ لأن استمرار نمو الدول الكبرى مرتبط باستمرار تخلف وتبعية دول العالم الثالث؛ لأن حدوث تنمية فيها يعني اعتمادها على نفسها، وكل مصنع يتم فتحه في دولة نامية يعني غلق مصنع في الدول الكبرى.

ومن هنا يعتمد نمو الدول الكبرى على استمرار تخلف وتبعية دول العالم الثالث، ومن هنا فتضارب المصالح حقيقة وكل يبحث عن مصلحته؛ ولذلك تسعى الدول الكبرى لاستمرار تخلف العالم الثالث، وهذا يتطلب استمرار الجهل والمرض؛ ولذلك تنادى المؤسسات الدولية التابعة للدول الكبرى وتربط مساعداتها وقروضها بالحد من الإنفاق الحكومي للدول النامية، وبيع القطاع العام وخصخصة الخدمات في حين أن هذه الدول لا تطبق ذلك داخل بلادها، فمعظم هذه الدول لديهم الإنفاق مفتوحًا، وخاصة للتعليم والصحة، فعلى سبيل المثال، ليس هناك تجارة فى الصحة والتعليم؛ فمثلا ألمانيا لا توجد بها مدارس خاصة، وابن الملياردير أو الوزير يجلس بجوار ابن عامل النظافة، وفي اليابان وجبة الغذاء واحدة لكل التلاميذ وإجبارية؛ لأن المدارس تمنع استقدام أي طعام من المنزل، ولا يوجد بيع للطعام داخل المدارس، وبالطبع طعام ابن الوزير هو طعام ابن العامل كله مجاني، تتحمل الحكومة تكاليفه.

وفي إنجلترا جميع الخدمات الصحية مجانًا على حساب الدولة - من فحوصات وتحاليل إلى أدوية أو جراحة - بدون مقابل، وفي فرنسا هناك تسعير لرغيف الفينو العائلي، ولا يتجاوز سعره يورو منذ أكثر من عشرين عامًا، والأمثلة كثيرة وبوجه عام يصل إسهام  الدولة والإنفاق العام الحكومي إلى نحو 44% في فرنسا، وفى إسرائيل إلى نحو 47%، وهذه النسب ترتفع وتنخفض حسب الظروف.

وهذا يدعونا إلى سؤال: أين حرية السوق؟ ولماذا تشترط الجهات الدولية على الدول النامية حرية التجارة، وإلغاء الدعم، ولا تشترط توفير التعليم والصحة الجيدة للجميع؟ أو أن تكون الأجور والمعاشات وأسعار المحاصيل بالسعر العالمي أو فرض ضرائب تصاعدية، كما يوجد في النظام الرأسمالي؛ الهدف واضح وهو استمرار الجهل والمرض في الدول النامية؛ يضمن استمرار التبعية، وفي مصلحة الدول الكبرى؛ فالمطلوب أن تستمر الدول النامية ضعيفة وتابعة للدول الكبرى لغرضين: الأول اقتصادي لتصدير كل منتجات الدول الكبرى، والثاني سياسي؛ وهو استمرار التبعية السياسية مع زيادة معدلات الفقر في الدول النامية، وتزايد الفجوة داخل هذه المجتمعات بين الأغنياء والفقراء واستمرار الفوضى والصراعات الداخلية، مع انتشار الفساد الإداري.

وهنا نتذكر مقولة أحد المسئولين الاقتصاديين في إحدى دول العالم الثالث بعد استقالته؛ حينما قال إنه لم يجد مساعدة من زملائه؛ لأن بعضهم يسعى لتحقيق مصالح جهات دولية على حساب وطنه؛ من أجل أن يعين بعد الوزارة كمستشار في إحدى هذه الهئيات فهذه الازدواجية في التعامل مع الدول النامية تؤدي في النهاية إلى فوضى السوق؛ حيث تكون أسعار الخدمات في الدول النامية بالسعر العالمي أي رأسمالية؛ بينما الأجور والمعاشات وأسعار المحاصيل بالسعر المحلي أي اشتراكية!! 

كيف يتسق هذا؟ لماذا لا تشترط المؤسسات الدولية الالتزام الكامل بالنظام الرأسمالي في الأجور والمعاشات وجودة التعليم والصحة أو حتى نسبة من الدخل القومي؛ ببساطة لأنهم لايريدون لنا التنمية حتى نماذج بعض الدول التي يقدمها البعض على أنها ناجحة وهمية فخير مثال نلمسه جميعًا ماحدث من تنمية فى عصر مبارك وصلت معدلاتها إلى نحو7%، وهذه نتائج غيرحقيقية؛ لأنها تهمل عن عمد حقائق كثيرة تغير النتيجة النهائية؛ فعلى سبيل المثال هل تم حساب مئات المليارات التى أخدت من أصحاب المعاشات، وضمها للميزانية على أنها مكاسب وهدف الحقيقة مأساة وجريمة فى حق أبائنا وأمهاتنا.

وهل تم حساب بيع مئات الشركات والمصانع والتى يقدرها البعض بمئات المليارت ومنها على سبيل المثال مصانع الأدوية التي استطاعت مصر في الستينيات أن تتحول من استيراد 85% من الأدوية إلى إنتاج أكثر من 85%، وهي صناعة مهمة لأمن المواطن والدول الرأسمالية توفره مجانًا في عهد مبارك، ثم بيعه، وأصبحنا نستورد 85 % من الدواء مرة أخرى، وأيضًا صناعة الأسمنت وغيرها، فهل بيع هذه المصانع إضافة للناتج القومي، وبيع الأراضي وغيرها، 

كما يجب أن نتذكر أن هذا النظام لم يستفد عندما تم إعفاء مصر من كل ديونها، بعد المشاركة في حرب الخليج، وبعد ذلك تضاعفت الديون مرة أخرى، ولم يضف المستثمر الأجنبي أو المصري أي جديد طوال كل العقود السابقة؛ لأنهم ببساطة اشتروا مصانع قائمة فعلا، بل إن كثيرًا من هذه المصانع أغلقت وبيعت كأراض؛ والدليل أين المنتج المصري الذي كان يعتمدعليه بيت أهالينا؟ حيث كان كل ما في منازلنا مصري من بوتجاز و ثلاجة وتليفزيون وسخان إلى سيارة، الآن نستورد دواء من الأردن، وسيارات من المغرب، وكانت مصر قبل حرية السوق تسبق كوريا وتركيا وخلافه.

الحقيقة واضحة لمن يتأمل ويفكر ويحلل؛ فليست هناك حرية سوق، بل هي وهم صنعوه الكبار ووقع فيه الضعفاء ويدفع ثمنه الأبرياء؛ بهدف نهب ثروات العالم الثالث، واستمرار تبعيته، وعلى دول العالم الثالث سرعة الاستيعاب للخروج من هذا النفق المظلم والبحث عن مستقبل يناسب تاريخنا وإمكاناتنا.. والله الموفق.
 
الاهرام -

د. حاتم عبدالمنعم أحمد

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق