بحث في هذه المدونة

السبت، 21 أبريل 2018

نريد العدالة.. لا البلاغة!!

أستغرب كل الاستغراب، أن يجند الـ"فيسبوك"، بكامل طاقته، للوقوف عند عبارة هنا، أو كلمة هناك، قالها حاكم أو وزير أو محافظ، بينما تترسخ فى الفضاء المصرى أشكال من المظالم الاجتماعية، التى لا حد لخطورتها، ولا سقف لمنحنياتها المفزعة، ولا مدى يمكن أن نتوقعه لما يمكن أن يترتب على هذه المظالم من نتائج وخيمة، عميقة الأثر، قد تكون دامية لشريحة اجتماعية واسعة من المواطنين! 

ولنفترض أن كل الوزراء تمتعوا بـ"فصاحة اللسان"، وأن كل الحكام نافسوا "أحمد شوقى" أمير الشعراء فى بلاغته، فهل كان هذا كله قادرًا أن ينسينا رداءة السياسات الاقتصادية المتدنية المتبعة.. بما جعل من القدرة الشرائية لمعظم المصريين (قزمًا) ضئيلًا، أمام غول الأسعار التى تنفجر بلا حساب، وتتعالى بلا سقف، وتكتسح البيوت الآمنة بجنون،  وتطحن العظام حتى تتركها بعد عملية الطحن الموجعة مسحوقًا ترابيًا، لا يساوى إلا حصيلة أصفار على اليسار!!.

هناك فى المشهد المصرى ما هو أهم _ بمراحل _ من تصيد عبارات الحكام والوزراء، واتخاذها مادة للتندر والسخرية، ونحن فى حقيقة الحال بإزاء وطن يعيش فعليًا على حافة الخطر، ويحاول التماسك بصعوبة فى عين العاصفة، ويتشوف إلى (الحرية) بتطلع جارف! وهى فى الأغلب أولويات لها الصدارة فى اللحظة الحاضرة، الغارقة، حتى الآذان، فى الأزمات!.

ومرة أخرى، لنفترض أن كل وزرائنا ومحافظينا وحكامنا، كانوا روادًا لصالون العقاد، أو تلقوا محاضرات لغوية متخصصة فى قلب مجمع اللغة العربية، ليشنفوا آذاننا بفصاحتهم وبلاغتهم، فهل كانت هذه البلاغة _ حال وجودها! _ قادرة أن تنسينا أن الحكومة اتخذت منذ ساعات قرارات أقرب إلى العمل الهستيرى، حتى فى طريقة الإعلان عنها والتوقيت الملتاث، ونحن على عتبة سنة مالية جديدة يتوقع فيها أن يرفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، وفى مسافة أيام تفصلنا عن شهر رمضان المعظم الذى تستعد فيه العائلات المصرية استعدادًا اقتصاديًا خاصًا! 

فى هذه الأجواء المالية المتأزمة للجميع، يسعى جهابذة القرار المصرى لانتزاع قرارات جديدة بزيادة رواتب الوزراء والمحافظين وأعضاء مجلس النواب، حيث تنص القرارات الجديدة _ فيما تابعنا إخباريًا _ على زيادة الراتب الأساسى لكل من رئيس مجلس الوزراء، ومجلس النواب، ليكون الراتب مساويًا للحد الأقصى للأجور (42 ألف جنيه!) ويتقاضى النواب والوزراء ووكيلا مجلس النواب والمحافظون راتبًا شهريًا أساسيًا قدره 35 ألف جنيه!! ويتقاضى نواب الوزراء والمحافظون 30 ألف جنيه _ قابلة للزيادة!! _ بخلاف البدلات، فضلًا عن تقاضى معاش، يساوى ثمانين فى المائة من إجمالى الرواتب عند انتهاء شغلهم لمناصبهم!!.

وجهابذة هذه القرارات الجديدة، هم أنفسهم الذين رفضوا تنفيذ حكم القضاء الإدارى بضم علاوة (الناس الغلابة) إلى أصحاب المعاشات، وبادروا بالطعن على حكم المحكمة، الذى انتصف للغلابة أمام محكمة غير مختصة لعرقلة صدوره بأى ثمن! فهل يكفى، تعليقًا على ما يحدث، أن نصرخ فى وجوه أصحاب القرارات العربيدة الكارثية بكلمة: "حرام أن يحدث هذا!!"، ألا تبرز عملية رفض أى رفع لرواتب البسطاء أو علاواتهم أو معاشاتهم، فى مقابل السخاء والكرم الحاتمى مع رواتب القيادات الكبيرة، ما نسميه بـ"بلاغة المفارقة"، التى تعتمد على التناقض الكامل بين صورتين على نحو فج استفزازى، يمكن أن يدفع الناس إلى الجنون، وهذه أسوأ أنواع البلاغة، بلاغة (الفعل) الكارثى الشرير، لا بلاغة (القول) الذى يمكن أن يخطئ صاحبه أو يزل فى بعض المواقف!.

فى كل الأحوال، لا يحتاج الجائعون والباحثون عن فرصة عمل، أو منظفات فى بقالة، أو لقمة خبز فى فرن، أو زجاجة دواء عاجل، أو قطن لتضميد الجراح، أو قروش يكملون بها ثمن الإيجار، أو شراء قطعة أثاث ضرورية، أقول لا يحتاج هؤلاء جميعًا إلى بلاغة "السكاكى" و"عبد القاهر الجرجانى" و"طه حسين"، وغيرهم من الجهابذة، وإنما يحتاجون ضميرًا يقظًا من القيادات المتنفذة المسئولة عن مصالحهم ولقمة خبزهم ووقودهم، ويحتاجون عقولًا واعية، لا تستجيب للحظة جنون فتصدر للجميع كل هذا الاستفزاز، الذى تجاوز كل الحدود! ويحتاجون سلطة تقترب من روح العدالة، فلا تتصرف بهذه الطبقية، وهذه السياسات الاقتصادية، القائمة على الإغاظة والمكايدة والاستفزاز! ليبقى سؤال الناس المفتوح _ بحجم السماء! _: "علام تراهن بالضبط هذه السلطة؟! وما المطلوب من الناس ليكونوا "وطنيين" وفق كتالوج السلطة وتوصيفها وتعريفها القاموسى لمعنى "المواطنة"، وقد شد الناس على بطونهم ألف حجر، فلم يجدوا فى الضفة المقابلة، إلا قرارات تصر على صناعة الأزمة، وتلغيم الداخل، واستثارة كل الثيران الهائجة فى المزرعة؟! 

ألم يفكر عباقرة القرارات الجديدة، التى تغدق فى جانب حد السفه، وتفتر وتبخل، فى جانب آخر حد العقم والجفاف، أن العطشان الجائع، الذى يقاسمه الجميع عطشه وجوعه، يختلف عن العطشان الجائع، الذى تم احتجازه فى "الحجر الصحى" لينعم علية القوم والكبار ورأس المال السياسى خارج الأسوار، بكل أشكال البذخ المتعجرف، والاحتكارات المرضية، التى لا تتحسب لقانون ولا عدالة ولا مساءلات من أى نوع؟!.

لم يعد لعبارة: "غدًا تتفتح الزهور" أو "بكره تفرج" أو غيرها من عائلة المسكنات التى يتجشأ بها الإعلاميون (الموجهون) فى وجوهنا، يوميًا، أى معنى، لأن المقدمات الصحيحة، وحدها، هى التى تصنع نتائج صحيحة، أما المقدمات التائهة المتخبطة المنحازة، فلا تصنع إلا احتقانًا وتراكمات خطيرة من الضغينة والنقمة، ولن "تفرج  الأزمة   بكره" _ كما يقولون _ تلقائيًا أو دون تخطيط أو دون ضمير، وترس المظالم الاجتماعية المجنونة دائر بكامل طاقته واندفاعه الأهوج؟! 

وبعيدًا عمن يذبحون الأوقات فى مناقشة هذا الخطأ اللغوى أو ذاك أو هذا المصطلح الفنى أو ذاك، من الحكام أو الوزراء أو القيادات نقول: "فصاحة  التصرف العاقل والسياسة الرصينة ذات الضمير اليقظ والحس الاجتماعى / الإنسانى، أبلغ وأقوى من "بلاغة القول وفصاحة اللسان"، ولنختم الكلام بهذه المقطوعة البلاغية الرفيعة من كتاب المفكر الكبير _ البليغ بحق! _ "جون ستيوارت ميل": "حول الحرية":
".. إذا كان الاضطهاد لا يستطيع أن يقضى على الحق قضاءً تامًا، ففى مقدوره أن يعوق ظهوره عدة قرون..!!.." هل وصلت الرسالة، أم أن بلغاء أو فصحاء القرارات الاستفزازية الجديدة، مازالوا مصرين على "بلاغتهم المجنونة" التى صدرت للوطن كل الأوجاع؟! وهل يحتاج الناس فى لحظتهم الخانقة، إلى "بلاغة" القيادى/ المتنفذ اللفظية، إم إلى "عدالته" العاقلة، فى السياسة والاقتصاد وإدارة الأزمات؟!.
 
المصريون
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق